فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} الآية، {إن} هذه عند سيبويه هي المخففة من الثقيلة، واللام في قوله: {ليفتنونك} لام تأكيد، و{إن} هذه عند الفراء بمعنى ما، واللام بمعنى إلا والضمير في قوله: {كادوا} قيل هو لقريش وقيل لثقيف، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلت الآية لأنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حى تمس أيضًا أوثاننا على معنى التشرع بذلك، قال الطبري وغيره: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لهم ذلك، وقلبه منكر فنزلت الآية في ذلك قال الزجاج: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه: «وما علي أن أفعل لهم ذلك والله تعالى يعلم ما في نفسي» وقال، ابن إسحاق وغيره، إنهم اجتمعوا إليه ليلة فعظموه، وقالوا له: أنت سيدنا ولكن أقبل على بعض أمرنا ونقبل على بعض أمرك، فنزلت الآية في ذلك فهي في معنى قوله تعالى: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]. وحكى الزجاج أن الآية قيل إنها فيما أرادوه من طرد فقراء أصحابه، وأما لثقيف، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات، وقالوا إنا نريد أن نأخذ ما يهدى لنا، ولكن إن خفت أن تنكر ذلك عليك العرب، فقل: أوحى الله ذلك إلي، فنزلت الآية في ذلك، ويلزم قائل هذا القول أن يجعل الآية مدنية، وقد روي ذلك، وروى قائلو الأقوال الأخر أنها مكية.
قال القاضي أبو محمد: وجميع ما أريد من النبي صلى الله عليه وسلم بحسب هذا الاختلاف قد أوحى الله إليه خلافه، إما في معجز وإما في غير معجز، وفعله هو أن لو وقع افتراء على الله إذ أفعاله وأقواله إنما هي كلها شرع. وقوله: {وإذًا لاتخذوك خليلًا} توقيف على ما نجاه الله منه من مخالفة الكفار والولاية لهم، وقوله: {لولا أن ثبتناك} الآية، تعديد نعمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» والركون شد الظهر إلى الأمر أو الحزم على جهة السكون إليه، كما يفعل الإنسان بالركن من الجدران ومنه قوله تعالى حكاية. {أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، وقرأ الجمهور: {تركَن} بفتح الكاف، وقرأ ابن مصرف وقتادة وعبد الله بن أبي إسحاق {تركُن} بضم الكاف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يركن، لكنه كاد بحسب همه بموافقتهم طمعًا منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباري إلى أن معناه لقد كاد أن يخبروا عنك أنك ركنت، ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفي الهم بذلك النبي عليه السلام، فحمل اللفظ ما لا يحتمل، وقوله: {شيئًا قليلًا} يبطل ذلك، وهذا الهم من النبي عليه السلام إنما كانت خطرة مما لا يمكن دفعه، ولذلك قيل {كدت}، وهي تعطي أنه لم يقع ركون، ثم قيل {شيئًا قليلًا} إذ كانت المقاربة التي تتضمنها {كدت} قليلة خطرة لم تتأكد في النفس، وهذا الهمّ هو كهمّ يوسف عليه السلام، والقول فيهما واحد وقوله: {إذًا لأذقناك} الآية، يبطل أيضًا ما ذهب إليه ابن الأنباري، وقوله: {ضعف الحياة وضعف الممات} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يريد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.
قال القاضي أبو محمد: على معنى أن ما يستحقه هذا المذنب من عقوبتنا في الدنيا والآخرة كنا نضعفه لك، وهذا التضعيف شائع مع النبي عليه السلام في أجره، وفي ألمه وعقاب أزواجه، وباقي الآية بين.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}.
قال حضرمي الضمير في {كادوا} ليهود المدينة وناحيتها، كحيي بن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء، وإنما أرض الأنبياء بالشام، ولكنك تخاف الروم، فإن كنت نبيًا، فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء، فنزلت الآية في ذلك، وأخبر الله عز وجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج لم يلبثهم بعده {إلا قليلًا}، وحكى النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بسبب قولهم، وعسكر بذي الحليفة، وأقام ينتظر أصحابه، فنزلت الآية عليه، فرجع، وهذا ضعيف لم يقع في سيرة ولا في كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة، وقالت فرقة الضمير في {كادوا} هو لقريش، وحكى الزجاج أن استفزازهم هو ما كانوا أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله، و{الأرض} على هذا عامة في الدنيا، كأنه قال {ليخرجوك} من الدنيا، وعلى سائر الأقوال هي أرض مخصوصة، إما مكة وإما المدينة، كما قال تعالى: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة: 33]. فإنما معناه من الأرض التي فيها تصرفهم وتمعسهم، وقال ابن عباس وقتادة: واستفزاز قريش هو ما كانوا ذهبوا إليه من إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كما ذهبوا قبل إلى حصره في الشعب، ووقع استفزازهم هذا بعد نزول الآية، وضيقوا عليه حتى خرج واتبعوه إلى الغار وغير ذلك، ونفذ عليهم الوعيد في أن لم يلبثوا خلفه {إلا قليلًا} يوم بدر، وقال مجاهد ذهبت قريش إلى هذا ولكنه لم يقع منها، لأنه لما أراد الله استبقاء قريش وأن لا يستأصلها، أذن لرسوله بالهجرة، فخرج من الأرض بإذن الله لا يقهر قريش، واستبقيت قريش ليسلم منها ومن أعقابها من أسلم، قال: ولو أخرجته قريش لعذبوا، فذهب مجاهد رحمه الله إلى أن الضمير في {يلبثون} عام في جميعهم، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {وإذًا لا يلبثوا} بحذف النون، وإعمال {إذًا}، وسائر القراء ألغوها وأثبتوا النون، وقرأ عطاء بن أبي رباح {يُلَبّثون} بضم الياء وفتح اللام وشد الباء، وروي مثله عن يعقوب إلا أنه كسر الباء، وقرا عطاء: {بعدك إلا قليلًا} وقرأ الجمهور: {خلفك} وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي وحفص عن عاصم: {خلافك} والمعنى واحد، ومنه قول الشاعر: الكامل:
عقب الرذاذ خلافها فكأنما ** بسط الشواطب بينهن حصيرا

ومنه قوله تعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} [التوبة: 81]، على بعض تأويلاته أي بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه اللفظة قد لزم حذف المضاف لأن التقدير في آياتنا خلاف خروجك، وفي بيت الشاعر خلاف انبساط الشمس أو نحوه، قال أبو علي: أصابوا هذه الظروف تضاف إلى الأسماء الأعيان التي ليس أحداثًا فلم يستحبوا إضافتها إلى غير ما جرى عليه كلامهم كما أنها لما جرت منصوبة في كلامهم تركوها على حالها إذا وقعت في غير موضع النصب، كقوله تعالى: {وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} [الجن: 11]، وقوله: {يوم القيامة يفصل بينكم} [الممتحنة: 3]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإِن كادوا ليفتنونك} في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدها: أن وفد ثَقيف أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: متِّعنا باللات سَنة، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمْتَ مكة، فأبى ذلك، فأقبلوا يُكثرون مسألتهم، وقالوا: إِنا نحب أن تعرِّف العرب فضلنا عليهم، فإن خشيتَ أن يقول العرب: أعطيتهم مالم تعطنا، فقل: الله أمرني بذلك؛ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم [عنهم]، وداخلهم الطمع، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
وروى عطية عن ابن عباس أنهم قالوا: أجِّلنا سنة، ثم نُسلم ونكسر أصنامنا، فهمَّ أن يؤجِّلهم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نكفُّ عنك إِلا بأن تُلِمَّ بآلهتنا، ولو بأطراف أصابعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما علَيَّ لو فعلت والله يعلم إِني لَكاره» فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، وهذا باطل لا يجوز أن يُظَنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ما ذكرنا عن عطية من أنه همَّ أن يُنْظِرهم سنة، وكل ذلك مُحال في حَقِّه وفي حق الصحابة أنهم رَوَواْ عنه.
والثالث: أن قريشًا خَلَواْ برسول الله ليلةً إِلى الصباح يكلِّمونه ويفخِّمونه، ويقولون: أنت سيدنا وابن سيدنا، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون، ثم عصمه الله من ذلك، ونزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والرابع: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطرد عنك سُقَاط الناس، ومواليهم، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضأن، وذلك أنهم كانوا يلبَسون الصوف، حتى نجالسَك ونسمعَ منك، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يستدعي به إِسلامهم، فنزلت هذه الآيات، حكاه الزجاج؛ قال: ومعنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت {إِن} واللام للتوكيد.
قال المفسرون: وإِنما قال: {لَيفتنونك} لأن في إِعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن.
قوله تعالى: {لتفتريَ} أي: لتختلقَ {علينا غيرَه} وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك، {وإِذًا} لو فعلت ذلك {لاتخذوك خليلًا} أي: والَوْكَ وصافَوْكَ.
قوله تعالى: {ولولا أن ثبَّتناك} على الحق، لِعِصمتنا إِياك {لقد كدتَ تركَن إِليهم} أي: هممتَ وقاربتَ أن تَميل إِلى مرادهم {شيئًا قليلًا} قال ابن عباس: وذلك حين سكت عن جوابهم، والله أعلم بنيَّته.
وقال ابن الأنباري: الفعل في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الباطن للمشركين، وتقديره: لقد كادوا يُركنونك إِليهم، وينسبون إِليك ما يشتهونه مما تكرهه، فنسب الفعل إِلى غير فاعله عند أمن اللَّبْس، كما يقول الرجل للرجل: كدت تقتل نفسَك اليوم، يريد: كدت تفعل فعلًا يقتلك غيرُك من أجله؛ فهذا من المجاز والاتساع.
وشبيه بهذا قولُه:
{فلا تموتُنَّ إِلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132]، وقول القائل: لا أرينّكَ في هذا الموضع.
قوله تعالى: {إِذًا لأذقناك} المعنى: لو فعلت ذلك الشيء القليل {لأذقناك ضعف الحياة} أي: ضِعف عذاب الحياة {وضِعف} عذاب {الممات}، ومثله قول الشاعر:
[نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتْ] ** واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ

أي: أهل المجلس.
وقال ابن عباس: ضِعْفَ عذاب الدنيا والآخرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصومًا، ولكنه تخويف لأُمَّته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إِلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.
قوله تعالى: {وإِن كادوا ليَسْتَفِزُّونك من الأرض} في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِم المدينة، حسدته اليهود على مُقامه بالمدينة، وكرهوا قربه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد أنبيٌ أنت؟ قال: نعم، قالوا: فوالله لقد علمتَ ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، فإن كنتَ نبيًا فائت الشام، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير: همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشخص عن المدينة، فنزلت هذه الآية.
وقال عبد الرحمن بن غَنْم: لمّا قالت له اليهود هذا: صدَّق ما قالوا، وغزا غزوة تبوك لا يريد إِلا الشام، فلما بلغ تبوكَ، نزلت هذه الآية.
والثاني: أنهم المشركون أهل مكة هَمُّوا باخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فأمره الله بالخروج، وأنزل هذه الآية إِخبارًا عما هَمُّوا به، قاله الحسن، ومجاهد.
وقال قتادة: هم أهل مكة باخراجه من مكة، ولو فعلوا ذلك ما نُوظِروا، ولكنَّ الله كفَّهم عن إِخراجه حتى أمره بالخروج.
وقيل: ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر.
فعلى القول الأول، المشار إِليهم: اليهود، والأرض: المدينة.
وعلى الثاني: هم المشركون، والأرض: مكة.
وقد ذكرنا معنى الاستفزاز آنفًا [الإسراء: 64]، وقيل: المراد به هاهنا: القتل، ليخرجوه من الأرض كلِّها؛ روي عن الحسن.
قوله تعالى: {وإِذًا لا يَلْبَثون خَلفك} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: {خلفك}.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {خلافك}.
قال الأخفش {خلافك} في معنى خلفك، والمعنى: لا يلبثون بعد خروجك {إِلا قليلًا} أي: لو أخرجوك لاستأصلناهم بعد خروجك بقليل، وقد جازاهم الله على ما همُّوا به، فقتل صناديد المشركين ببدر، وقتل من اليهود بني قريظة، وأجلى النضير.
وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا يَلْبَثون على خِلافك ومخالفتك، فسقط حرف الخفض.
وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل: {خُلاَّفُكَ} بضم الخاء، وتشديد اللام، ورفع الفاء. اهـ.